كامل إدريس- رئيس وزراء السودان الجديد.. تحديات جسام وآمال معلقة.

يواجه رئيس الوزراء السوداني الجديد، الدكتور كامل الطيب إدريس، الذي تم تنصيبه يوم الاثنين، سلسلة من التحديات الكبرى والمعوقات الجسيمة. وقد جاء تعيينه عقب فترة عصيبة ومخاض طويل منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2021، حيث كانت الأنظار شاخصة بتمعن وبحث دقيق عن شخصية مرموقة تمتلك المؤهلات المطلوبة وتستوفي المعايير التي وضعها مجلس السيادة، والتي تنص على أن يكون رئيس الوزراء من الشخصيات المستقلة ذات الكفاءة العالية، ويميل إلى التكنوقراطيين أصحاب الخبرة الفنية المتخصصة.
لم يكن الدكتور إدريس ليحظى بفرصة تولي هذا المنصب الرفيع في ظل هذه الظروف والأوضاع السودانية المتردية والمليئة بالصعاب، والبيئة الإقليمية والدولية المضطربة، لولا الاعتبارات السياسية الضاغطة التي فرضت نفسها، والحسابات الداخلية البالغة الحساسية التي لعبت دورًا حاسمًا في تفضيله على غيره من المرشحين الآخرين، وقادت به نحو هذا الكرسي المحفوف بالمخاطر والتحديات في السودان.
بفضل خبرته القانونية العميقة وتجربته الدبلوماسية الثرية، بالإضافة إلى عمله المتميز لولايتين متتاليتين كمدير عام للمنظمة العالمية للملكية الفكرية (WIPO) التابعة للأمم المتحدة، فإن الدكتور كامل إدريس كان معروفًا ومشهودًا له في الأوساط السياسية السودانية طوال ما يقارب العقدين من الزمان، كمرشح بارز ودائم الحضور في قوائم الترشيح لهذا المنصب الرفيع أو لمنصب وزير الخارجية، وذلك منذ لمع نجمه السياسي في عهد الرئيس عمر البشير.
لم يكن الدكتور إدريس معروفًا على نطاق واسع لدى العديد من الشخصيات البارزة في الساحة السياسية السودانية، إلا بعد أن قام بترتيب لقاء تاريخي ونادر بين الدكتور حسن الترابي والسيد الصادق المهدي رحمهما الله، في العام 1999. وكان هذا اللقاء هو الأول من نوعه بين الترابي، رئيس البرلمان آنذاك والمنظر الرئيسي للنظام الحاكم في تلك الفترة، والصادق المهدي، الذي كان يُعد من أبرز قادة المعارضة السودانية في ذلك الوقت.
انخرط الدكتور كامل إدريس في عالم السياسة بشكل ملحوظ عندما استضاف ورتب ذلك اللقاء المهم في منزله في جنيف. واعتبر نفسه حينها مساهمًا فاعلًا في تعزيز الوحدة الوطنية السودانية والسعي لتحقيق المصالحة الشاملة بين مختلف الأطراف السياسية المتنازعة. وقد منحه هذا الدور بطاقة الدخول إلى حلبة السياسة، وأصبح من الشخصيات التي يُعوّل عليها ويُراهن عليها كلما سنحت فرصة للتعيين في منصب رفيع المستوى، ولم تغب عنه الأنظار.
منذ ولوجه عالم السياسة، لم يغب الدكتور كامل إدريس عن المشهد السياسي السوداني، وظلت له أدوار محفوظة في عهد البشير بعد اندلاع التمرّد في دارفور عام 2003، وإصدار قرارات من المحكمة الجنائية الدولية في عام 2007 ضد عدد من كبار المسؤولين السودانيين، ثم ضد الرئيس نفسه. وعندما سنحت له اللحظة المناسبة، قام بترتيب لقاءات سرية في جنيف بين وزير الدولة للعدل السوداني آنذاك (والذي أصبح لاحقًا وزيرًا للدولة ثم وزيرًا للخارجية)، والمدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية.
يحتفظ الدكتور إدريس بعلاقة وطيدة ومميزة مع لويس مورينو أوكامبو، المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، حيث كانا زميلين في إحدى الجامعات الأميركية المرموقة. كان أحدهما مديرًا للمنظمة العالمية للملكية الفكرية، والآخر مدعيًا عامًا للمحكمة الجنائية الدولية. وقد بلغ عدد الاجتماعات بين أوكامبو والمسؤول السوداني حوالي ثلاثين اجتماعًا مشتركًا بين الجانبين، حكومة السودان والمحكمة، ولكنها لم تنجح في التوصل إلى تسوية للقضية السودانية المعقدة.
لعب الدكتور إدريس في تلك الفترة أدوارًا هامة أخرى، إلى أن انتهت ولايته الثانية في المنظمة، ليتفرغ بعدها للنشاط السياسي بشكل كامل. وقد تم طرح اسمه أكثر من مرة عندما اعتمد الرئيس البشير، عقب مؤتمر الحوار الوطني، توصية المؤتمر بتخصيص منصب رئيس وزراء وفصل الجهاز التنفيذي عن السلطة السيادية. ولكن ترشيحه كان يصطدم دائمًا بعقبات حالت دون تعيينه في هذا الموقع الذي كان يطمح إليه وتهيأ له. وتم ترشيحه أيضًا لمنصب وزير الخارجية، ولكنه لم يحالفه التوفيق.
عندما اندلعت المظاهرات العارمة في ديسمبر/ كانون الأول 2018 ضد الرئيس البشير وحكومته، اتخذ الدكتور كامل موقفًا معارضًا للرئيس البشير وسلطته، وأعلن تأييده الصريح للمظاهرات وتحركاتها. وقد أدلى بتصريحات قوية وسجل مقاطع فيديو تدعم المتظاهرين وتناصر مطالبهم.
وعقب سقوط نظام الإنقاذ، عاد اسم كامل إدريس ليتردد بقوة كمرشح محتمل لرئاسة الوزراء. ولكن فصائل اليسار وجماعات أخرى في قوى الحرية والتغيير، بالإضافة إلى جهات خارجية، عارضت ترشيحه، وفضلت الدكتور عبدالله حمدوك، الذي كان يشغل منصب نائب رئيس اللجنة الاقتصادية الأفريقية التابعة للأمم المتحدة. وغاب الدكتور كامل عن المشهد السياسي بعد ترشيح حمدوك، وسط الضجيج والفوضى اللذين سادا تلك الفترة، ولكنه حافظ على وجود هادئ ومتواضع في أجواء الفترة الانتقالية الصاخبة.
عاد ترشيحه مرة أخرى عقب الإجراءات التي أطاحت بقوى الحرية والتغيير من السلطة في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، ومغادرة عبدالله حمدوك لمواقع السلطة، ولكن هذا الترشيح ظل معلقًا ومجمدًا في مكانه لما يقارب الأربع سنوات.
عندما اندلعت الحرب أو قبلها بقليل، استمر الدكتور كامل إدريس في التجول في أروقة السياسة بشكل متكرر، ملوحًا بمبادرات وطنية تهدف إلى جمع الصف الوطني وتوحيد الكلمة، وإجراء حوار شامل بين الأطراف المختلفة. ولكنه لم يحظ باللحظة الحاسمة التي تمكنه من تحقيق أهدافه، فهو لا يمثل تيارًا سياسيًا محددًا ولا حزبًا قائمًا، ولكنه سعى إلى ترسيخ صورته كشخصية سودانية نخبوية ذات خبرة واسعة في العمل في الوظائف الدولية، وله علاقات قوية في منظمات الأمم المتحدة والدوائر الغربية.
لم تتجاوز المبادرات التي قدمها أو شارك فيها حدود التمنيات الطيبة والمساعي الحميدة والرغبة الصادقة في تجاوز نقاط الخلاف الحادة بين الفرقاء السودانيين المتنازعين. وقد قدم مساهمات مكتوبة تحمل تصوراته وآرائه في كتاب منشور له قبل أعوام بعنوان "سودان المستقبل".
عقب اندلاع الحرب وتفاقم الوضع المأساوي في السودان، وتعليق عضوية السودان في الاتحاد الأفريقي وتوقف التعاون من جانب الاتحاد الأوروبي، أصبحت الضرورة ملحة لتشكيل حكومة مدنية يترأسها رئيس وزراء مدني، وذلك بهدف فتح الباب من جديد أمام السودان لاستعادة عضويته الكاملة ونشاطه الفاعل في الاتحاد الأفريقي، واستئناف تعاملاته وعلاقاته مع الاتحاد الأوروبي والأطراف الغربية التي كانت تشترط ذلك.
من بين العديد من المرشحين المحتملين، كان الدكتور كامل إدريس دائمًا على رأس القائمة. وكثيرًا ما كانت تظهر في وسائل الإعلام السودانية وشبكات التواصل الاجتماعي دعوات قوية ومؤيدة لتوليه منصب رئيس الوزراء، بينما كان يواجه في المقابل معارضة شرسة من قبل المناهضين له. وهو يمثل حالة فريدة من نوعها تشبه إلى حد كبير شعر نزار قباني: إما أن تحبه حد الثمالة، أو تبغضه وتكرهه كراهية التحريم.
يبدو أن حظوظ الدكتور كامل إدريس قد توافقت أخيرًا مع تطلعاته وطموحاته السياسية. فقد تم تعيينه الآن في هذا المنصب الرفيع الذي طالما بدا له قريبًا وبعيدًا في الوقت نفسه، ولكنه يمسك الآن بزمام الأمور في الجهاز التنفيذي ويتمتع بصلاحيات واسعة. فما هي أبرز التحديات التي تواجهه في هذه المرحلة الحرجة؟ وكيف سيتعامل معها بحكمة واقتدار؟ وهل سيكون بمقدوره اجتياز هذا الاختبار الصعب بنجاح، وقيادة الحكومة والشعب السوداني إلى بر الأمان والاستقرار والازدهار؟
الإجابة عن هذه التساؤلات بالغة الأهمية والضرورة، وتكمن في النقاط التالية:
- أولًا: يشكل تحدي الحرب الدائرة حاليًا التحدي الأكبر والأكثر إلحاحًا أمام رئيس الوزراء الجديد. ولا بد له من أن يكون متوافقًا ومنسجمًا مع موقف مجلس السيادة وقيادة الجيش. ويتعين عليه أن يشارك بفعالية في عملية إنهاء التمرد ودحره، وأن يقود العملية السياسية الداخلية بحكمة وروية، وأن يتحرك على الصعيد الخارجي بنشاط ودبلوماسية، وأن يبدأ نشاطًا حكوميًا ناجزًا وناجعًا من أجل درء المخاطر والتحديات المحيطة بالبلاد نتيجة للمؤامرات الخارجية من بعض الدول في الإقليم. كما يجب عليه العمل بكل جد وإخلاص من أجل إعادة السودان إلى مكانته الطبيعية في الحضور القاري الفاعل، واستعادة المبادرة الأفريقية لمحاصرة التمرد والدول الداعمة له، والتعامل بحزم وقوة مع دول الجوار السوداني ودول المنطقة المتورطة في هذه الحرب الضروس.
- ثانيًا: يواجه رئيس الوزراء الجديد تحديًا كبيرًا يتمثل في إعادة بناء مؤسسات الدولة وتفعيلها، وإعادة الإعمار الشامل للبلاد. وتعتبر هذه المهمة من أعقد التحديات الداخلية وأكثرها صعوبة. ولا يمكن لرئيس الوزراء الجديد أن يتقدم خطوة واحدة للأمام دون تشكيل حكومة ذات كفاءة عالية وغير حزبية، تمتلك برنامجًا واقعيًا وخططًا عملية قابلة للتنفيذ على أرض الواقع، من أجل استعادة ثقة الشعب في أدوات الدولة ومؤسساتها، وتهيئتها للمرحلة المقبلة. كما يجب عليه أن يقود المجتمع ليتحقق التكامل والتعاون مع الدولة في عملية إعادة الإعمار، وحفظ الأمن والاستقرار، وتوفير الخدمات الأساسية للمواطنين، وضمان عودة النازحين واللاجئين إلى ديارهم، وإعادة ترميم ما تصدع في البنية الاجتماعية للبلاد، وتحقيق التئام المجتمع وتعافيه من النعرات المناطقية والجهوية والقبلية، وخطاب الكراهية والعنف الذي يهدد النسيج الاجتماعي.
- ثالثًا: يتطلع الشعب السوداني إلى أن يمتلك رئيس الوزراء الجديد رؤية متكاملة وشاملة لتحقيق النهضة الشاملة ومعالجة الاختلالات والتدهور الاقتصادي الذي تعاني منه البلاد. ويتوقعون منه أن يقدم تصورات واضحة ومفصلة للاستفادة المثلى من موارد البلاد الطبيعية والبشرية، وتعزيز العلاقات مع المجتمع الدولي لاستقطاب المساعدات والقروض والاستثمارات الضرورية. كما يجب عليه أن يبث روحًا جديدة من الأمل والتفاؤل في أوصال الاقتصاد الوطني من خلال طرح برامج ومشاريع وشعارات محفزة تدفع بالإنتاج في جميع القطاعات الحيوية، وذلك بهدف استعادة الاقتصاد السوداني لدورته الطبيعية وعافيته من جديد.
- رابعًا: من بين التحديات المرتبطة بما سبق، فإن أكبر ما يواجهه رئيس الوزراء الجديد هو أنه جاء من خارج السياق الداخلي الملامس لمشكلات البلاد البنيوية والسياسية والخدمية والتنموية. فالرجل لم يمكث إلا فترات محدودة جدًا في وزارة الخارجية خلال حياته المهنية الطويلة، ثم هاجر في رحلة طويلة، وظل بعيدًا عن تفاعلات وهموم الداخل السوداني. ولا يمكن الادعاء بأنه قريب من مواطن الخلل في الدولة والمجتمع، ولم يكتسب خبرة عملية داخلية في مؤسسات الدولة: كيف تعمل، وكيف تنطلق، وكيف تُدار؟ ولا صلة له بتعقيدات المجتمع وأمراضه المستعصية التي يتجسد أبرزها في الولاءات الدنيا: (القبلية – الجهوية – الخطاب العنصري – العصبية العرقية)، وكلها أدواء تتطلب خبرة وحنكة وتجربة وعقلًا منفتحًا قريبًا من موطن الألم ومكمن السُقام.
إذا كانت تحديات المرحلة الراهنة الداخلية والخارجية تمثل عقبات كأداء أمام رئيس الوزراء الجديد، فإن التحدي الأكبر الذي يواجهه هو كيفية التعامل بحكمة وفاعلية مع تقاطعات الواقع الداخلي المعقد، ومعالجة حالة الاستقطاب الخارجي المتزايد، وتفعيل أداء جهاز الدولة المترهل، وحسن اختيار الوزراء والمعاونين الأكفاء، وإجراء إصلاح شامل وعميق للجهاز التنفيذي، وكبح جماح الفساد المستشري ومحاربته بكل الوسائل الممكنة، وبث الأمل والتفاؤل في نفوس الشعب السوداني من جديد. وتلك، لعمري، مهمة شاقة وعسيرة للغاية تتطلب جهودًا مضنية وتضحيات جسيمة.